وقال لي : هذا دليل على أن القرآن كان موجوداً قبل وجود محمد صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : إن المقصود بالقرآن هنا هو : الكتب السابقة فكتاب موسى مسمَّى بـ " الفرقان " ، والقرآن مسمَّى بـ " الفرقان " أيضاً ، وإن هناك رواية أخرى لهذا البيت ذكر فيها " الفرقان " ، وليس القرآن . فكيف أرد عليه وأقنعه علماً بأن هذه الشبهة أثَّرت في أناس آخرين ؟ . جزاك الله خيراً شيخنا الفاضل ، وأنتظر ردكم الكريم .
الجواب : الحمد لله أولاً: ينبغي أن يُعلَم أنه ليس كل ما كتبه أهل التاريخ وأهل السيرة يكون صحيحاً ، فقد ملئت كتب تلك الفنون بالباطل والمنكر ، فالخبر المجرد الذي ليس فيه نكارة ، ولا يُستنبط منه حكم شرعي ولا تؤخذ منه فائدة عقيدية يمكن التساهل في نقله ، أما حين يكون في متنه نكارة ، أو يكون فيه دلالة على حكم شرعي : فهنا يجب مراعاة قواعد أهل الحديث ، ومن هنا قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله : " لولا الإسناد لقال مَن شاء ما شاء " .
والعجيب أن يكون ناشر تلك الشبهة على القرآن والمستدل بتلك الرواية بعض النصارى وهم أهل كتب مزوَّرة محرَّفة دخل على دينهم الشرك فقبلوه وسوَّقوا له ونسبوه للرب تعالى ! ولو أنهم التزموا قواعد أهل الحديث التي عندنا لميَّزوا الحق من الباطل ، ولنبذوا الشرك وردُّوه في وجه قائله ، لكنَّ الله تعالى لم يوفق أولئك لمثل هذا العلم الجليل ، وقد اختص الله تعالى به هذه الأمة المباركة ، فحفظت به قرآنها وسنَّة نبيها صلى الله عليه وسلم ، بل واستطاعت بفضل قواعده في نقد المتن من رد كثير من حكايات وأخبار تنسب للتاريخ القديم الحديث .
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله - : و قد يظن بعضهم أن كلَّ ما يُروى في كتب التاريخ والسيرة أن ذلك صار جزءا لا يتجزأ من التاريخ الإسلامي لا يجوز إنكار شيء منه ! وهذا جهل فاضح ، وتنكر بالغ للتاريخ الإسلامي الرائع الذي يتميز عن تواريخ الأمم الأخرى بأنه هو وحده الذي يملك الوسيلة العلمية لتمييز ما صح منه مما لم يصح ، وهي نفس الوسيلة التي يميز بها الحديث الصحيح من الضعيف ، ألا و هو الإسناد الذي قال فيه بعض السلف : " لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء " ، ولذلك لما فقدت الأمم الأخرى هذه الوسيلة العظمى امتلأ تاريخها بالسخافات والخرافات ، ولا نذهب بالقراء بعيداً فهذه كتبهم التي يسمونها بـ " الكتب المقدسة " اختلط فيها الحابل بالنابل ، فلا يستطيعون تمييز الصحيح من الضعيف مما فيها من الشرائع المنزلة على أنبيائهم ، ولا معرفة شيء من تاريخ حياتهم أبد الدهر ، فهم لا يزالون في ضلالهم يعمهون ، وفي دياجير الظلام يتيهون ! فهل يريد منَّا أولئك الناس أن نستسلم لكل ما يقال : " إنه من التاريخ الإسلامي " ولو أنكره العلماء ، ولو لم يرد له ذِكر إلا في كتب العجائز من الرجال والنساء ؟! وأن نكفر بهذه المزية التي هي من أعلى وأغلى ما تميز به تاريخ الإسلام ؟! .
وأنا أعتقد أن بعضهم لا تخفى عليه المزية ولا يمكنه أن يكون طالب علم بله عالماً دونها ، ولكنه يتجاهلها ويغض النظر عنها ستراً لجهله بما لم يصح منه ، فيتظاهر بالغيرة على التاريخ الإسلامي ، و يبالغ في الإنكار على من يعرِّف المسلمين ببعض ما لم يصح منه ، بطراً للحق ، وغمصاً للناس ، والله المستعان . " السلسلة الصحيحة " ( 5 / 331 ) .
ثانياً: وبالنظر في الرواية التي فيها الشعر المنسوب لعبد المطلب نجد الآتي : 1. روى تلك الحادثة عن عبد المطلب : محمد بن إسحاق في " السيرة " من غير إسناد ! وما كان هذا حاله فلا يمكن قبوله . 2. أنه جاء ذلك الشعر بلفظ " الفرقان " بدلاً من القرآن ، وهي رواية ابن إسحاق نفسه ! وعنه نُقلت ، وقد حصل تحريف في ذلك اللفظ فصار " القرآن " ، ولو كنَّا سنقبل الرواية فإننا نقبلها بلفظ رواية ابن إسحاق ؛ لأن لفظ " الفرقان " أقرب للواقع والاستدلال ؛ فهي لفظة تشمل الكتب السابقة وخاصة " التوراة " ، ومنه قوله تعالى ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) البقرة/ 53 ، وقوله تعالى ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ) الأنبياء/ 48 .
ومما يؤكد أن هذا اللفظ هو المرجَّح : أ. أن المشركين في الجاهلية كانوا قد أخذوا عن اليهود العلم بمجيء رسول يخرج في جزيرة العرب ، ولذا سمَّى بعضهم – ومعهم بعض النصارى - ابنه بـ " محمد " رجاء أن يكون ابنه هو الرسول .
ب. أن في الشعر المروي قوله في وصف " الفرقان " : " فِي كُتُبٍ ثَابِتَةِ الْمَثَانِي " فكيف سيصدق هذا الجمع على كتاب واحد ؟! .
ج. أن عبد المطلب بحسب الرواية يذكر شيئاً علمه أو قرأه ، فأين في زمانه " القرآن " ؟! وهل كان فيه ( تّبَّت يدا أبي لهب وتب ) ؟! وهل كانوا يقرؤون فيه ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) ؟! وهل طرق سمعهم آيات براءة عائشة من الفاحشة ؟! وهل كان مما يسمعون ويقرؤون آيات التوبة على من تخلف في غزوة تبوك ؟! وكل ذلك وغيره الكثير الكثير يدل على عدم وجود القرآن لا اسمه ولا لفظه ، بخلاف كتب اليهود والنصارى فهي موجودة يقرؤونها وتتلى عليهم .
3. أنه على فرض صحة نسبة هذه الأبيات لعبد المطلب ، وأنها جاءت بلفظ " القرآن" فلا إشكال في ذلك ، لأن القرآن يطلق على الكتاب المقروء . فيكون المراد به في البيت : التوراه أو الزبور . وقد جاء في السنة الصحيحة : إطلاق القرآن على الزبور .
قال ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السنن" : " والمراد بالقرآن هنا الزبور، كما أريد بالزبور القرآن في قوله تعالى : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) " أنتهى . والعرب تسمي الكلام المجموع المكتوب قرآناً أو زبوراً .
4. في الشعر المنسوب لعبد المطلب – جد النبي صلى الله عليه وسلم – أنه سمَّاه بـ " محمد " لأن اسمه هكذا في القرآن – على فرض صحة هذا اللفظ – ، بينما نجد سبباً آخر يقوله عبد المطلب في سبب هذه التسمية ، فقد قال السخاوي في " سفر السعادة " – كما في " الوافي بالوفيات " للصفدي - : " قيل لعبد المطلب : بم أسميت ابنك ؟ فقال : بـ " محمد " ، فقالوا له : ما هذا من أسماء آبائك ! فقال : أردت أن يُحْمَد في السماء والأرض " !! .
فأيهما أولى بالقبول الرواية الأولى أم الثانية ؟! إن الباحث المنصف ليدرك أن الرواية الثانية هي الأقرب للواقع والصحة ، وأن عبد المطلب لا يمكنه أن يزعم أن ابن ابنه هذا بعينه هو المسمَّى " محمد " في الكتب السابقة ؛ لأنه يمكن تكذيبه بيسر وسهولة ، وليس ادعاؤه بأولى من ادعاء غيره من أهالي المواليد الآخرين ، ولكن الرواية الثانية تبين أنه سمَّاه رجاء أن يكون محموداً وليس للقطع أنه كذلك ، وكل عاقل يدرك الفرق بين الأمرين .
5. نسأل : إذا كان عبد المطلب علم بوجود نبي مرسل اسمه " محمد " ؛ فلم لم يسمِّ أحد أبنائه بذلك ؟! ولم سمَّى هذا الحفيد تحديداً دون غيره ؟!
6. ونسأل : إذا كان هذا هو الاعتقاد عند عبد المطلب وقومه ، فلِم حارب أهل النبي صلى الله عليه وسلم حفيد عبد المطلب هذا المبشَّر به ؟! ولم كذَّبه الكفار من أعمامه ؟! ولم رضي أبو طالب أن يموت على الكفر ؟! .
والقصة مع شعرها فيها مجال أكثر من هذا لنقدها ونقضها ، ونكتفي بما ذكرناه ، وهو كافٍ لمن تأمله .