( آداب قضاء الحاجة )
للشيخ محمد صالح المنجد
إن من كمال الشريعة الإسلامية وإتمامها أن الله سبحانه وتعالى بين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كل شيء، فما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وإن من الآداب السامية التي لا توجد في أي شرعة أو ملة، ما علمنا رسولنا عليه الصلاة والسلام من كيفية قضاء الحاجة وآدابها، وما يجوز لنا فيها وما لا يجوز، وقد ذكر الشيخ آداب قضاء الحاجة في هذه الرسالة الطيبة المباركة، مستدلاً على ذلك بالأحاديث وأقوال أهل العلم.
كمال الشريعة.. والأدب في الإسلام:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: نتحدث في هذه الليلة وفي هذه السلسلة؛ سلسلة الآداب الشرعية المجموعة الثانية عن أدب يدل على كمال هذه الشريعة وحسنها، وأنها لم تترك شيئاً إلا وأوردت فيه آداباً وأحكاماً ليدل ذلك على قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] فالكمال والجمال في هذه الشريعة من سماتها، والحمد لله على نعمته. ومن عظمة هذه الشريعة المباركة أنها ما تركت خيراً في قليل ولا كثير إلا أمرت به ودلت عليه، ولا شراً في قليل ولا كثير إلا حذرت منه ونهت عنه؛ فكانت كاملة حسنة من جميع الوجوه، وقد أثار ذلك دهشة غير المسلمين وإعجابهم بهذا الدين، حتى قال أحدهم لـسلمان الفارسي رضي الله عنه: (قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، فقال سلمان: أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول...) الحديث. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وهو في صحيح مسلم وغيره. وقضاء الحاجة: هذا الاسم من الأدلة على الأدب في الشريعة، فإنه ذكر كنايةً عن خروج البول والبراز، ولا شك أن هذا الاسم -قضاء الحاجة- ألطف وأحسن وأجمل، والأدب في مثل هذا واضح في القرآن والسنة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43] فلم يسم الخارج باسمه البشع، وإنما كنى عنه بهذه العبارة فقال: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43] والغائط: هو المطمئن من الأرض.. المكان النازل من الأرض.. مستوى هابط من الأرض، فقد كانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوه رغبة في التستر، فكني به عما يخرج من السبيلين. ولذلك فإنه لا فحش ولا بذاءة في هذه الشريعة بخلاف ما يستعمله كثير من الناس في ألفاظهم ومجالسهم من أنواع البذاءات والفحش، فنقول: حتى هذه العملية وهي خروج هذه النجاسات سميت بهذه الأسماء من باب الأدب، وقيل: قضاء الحاجة، مع أن الحاجات كثيرة، لكن صار علماً أو رمزاً على إخراج النجاسة من السبيلين. وقد ورد في هذه الشريعة عدة آداب وأحكام لهذا الأمر، ومن ذاك:
عدم استقبال القبلة:
أولاً: عدم استقبال قبلة الصلاة عند البول والغائط، والقبلة: هي جهة الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام، فإن من احترام المسلمين لقبلتهم، وتعظيمهم شعائر الله ألا يستقبلوا القبلة ولا يستدبروها ببول أو غائط، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها). أما بالنسبة للخلاء، أو الصحراء، والفضاء، والمكان المفتوح، فإنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها ببول ولا غائط، لكن قد حصل خلاف في البنيان، هل يجوز استقبال القبلة أو استدبارها في البنيان؟ فذهب بعض العلماء إلى ذلك، وقالوا: بأن النهي خاص بالأماكن المكشوفة والمفتوحة كالفضاء والصحراء، وأما في البنيان فلا. وقال بعضهم: النهي عام، وفرق بعضهم بين البول والغائط... إلى آخر ذلك من الأقوال المشهورة والمعروفة في هذا الموضوع، ولذلك الأحسن للإنسان -وهذه من الأمور المهمة- الذي يريد أن يصمم بيتاً أن ينتبه حتى يكون المكان المعد للجلوس لقضاء الحاجة في بيته ليس إلى جهة القبلة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول في المدينة : (شرقوا أو غربوا) ونحن نقول في هذا المكان: اتجهوا شمالاً أو جنوباً، بحسب الموقع: أين أنت من مكة ؟ وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم من مراعاتهم لهذا لما دخلوا بلاد فارس والشام والفتوحات وجدوا المراحيض إلى جهة مكة فقال بعضهم: [ فكنا ننحرف ونستغفر الله ]. فلو أنه أراد أن يحتاط حتى في البنيان يمكن أن ينحرف ويستغفر الله.
ألا يمسك ذكره بيمينه حال البول:
ومن الآداب كذلك: ألا يمس ذكره بيمينه وهو يبول، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه) رواه البخاري ، وحيث أن اليد اليمنى تجعل للأمور الحسنة والطيبة فليس من المناسب إذاً أن يكون هذا المس باليمنى، ولو احتاج إليه فإنه يكون عند الحاجة باليسرى.
ألا يستنجي بيمينه:
ثالثاً: ألا يزيل النجاسة بيمينه، ليس فقط ألا يمس الموضع أو العورة باليمنى، ولكن لا يزيل النجاسة باليمنى، بل يستخدم شماله لمباشرة النجاسة في إزالتها لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يستنجي بيمينه) رواه البخاري . ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تمسح أحدكم فلا يتمسح بيمينه) رواه البخاري ، ولما روت حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لأكله وشربه ووضوئه واستياكه وأخذه وعطائه، ويجعل شماله لما سوى ذلك) رواه الإمام أحمد رحمه الله، وهو حديث صحيح، وروى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استطاب أحدكم فلا يستطب بيمينه، ليستنجي بشماله).
الجلوس عند قضاء الحاجة:
رابعاً: والسنة أن يقضي حاجته جالساً وألا يقضيها واقفاً، وأما البول فإن الأصل في فعله عليه الصلاة والسلام والأكثر والأشهر هو أنه كان عليه الصلاة والسلام يقعد عند قضاء حاجته، وأما بالنسبة للوقوف عند البول فإن هناك بعض الأحاديث والآثار التي وردت فيه، أما بالنسبة لنهي صريح مرفوع عن البول قائماً فلا دليل له، وقد جاء عن ابن مسعود : [من الجفاء أن تبول وأنت قائم] وكان سعد بن إبراهيم من السلف لا يجيز شهادة من بال قائماً، وحديث عائشة : (من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعداً). قال الترمذي : هذا أصح شيء في الباب. وقد رويت الرخصة في البول قائماً عن عمر وعلي و ابن عمر و زيد وسهل بن سعد وأنس وأبي هريرة وعروة ، وروى حذيفة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً) رواه البخاري . أتى سباطة قوم، أي: موضع رمي القمامة. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لتبيين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة، ويحتمل أن يكون في موضع لم يتمكن من الجلوس فيه، وقيل: فعل ذلك لعلة كانت بمأبضه؛ والمأبض: باطن الركبة من كل حيوان، فكان هناك جرح أو علة فما استطاع أن ينثني فبال قائماً، ولكن هذا الحديث الذي أشاروا إليه في قضية المأبض حديث ضعيف ليس بصحيح، فقد رواه الخطابي في معالم السنن ، والحاكم والبيهقي ، ولكن هناك من هو أعلى من الخطابي ، لأن كتاب المعالم للخطابي من الشروح، وقد أورد فيه سنده ولكن عند العزو يعزى إلى مثل: الحاكم والبيهقي، وفي هذا الحديث رجل يقال له: حماد ؛ وهو ضعيف، والحديث قد ضعفه الدار قطني و البيهقي وأقر ذلك ابن حجر. أما رواية ابن مسعود : [من الجفاء أن تبول قائماً] فإن الترمذي قد رواه في سننه ، وعلقه أحمد شاكر فقال: وهذا الأثر معلق بدون إسناد، وقال المباركفوري : لم أقف على من وصفه، وقد تتبع الشيخ: ناصر الدين الألباني في إرواء الغليل طرقه وجمعها، فقال في رواية ابن مسعود : [أربع من الجفاء: أن يبول الرجل قائماً، وصلاة الرجل والناس يمرون بين يديه وليس بين يديه شيء يستره، ومسح الرجل التراب عن وجهه وهو في صلاته، وأن يسمع المؤذن فلا يجيبه في قوله] يقول الألباني : هذا صحيح عن ابن مسعود موقوفاً، وقد رواه ابن أبي شيبة ، وأما مرفوعاً: [ثلاث من الجفاء...] فإن هذا الحديث ضعيف ومنكر، ولا يثبت مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: قال بعضهم: إن العلة في بوله عليه الصلاة والسلام قائماً -ما دام أنه قد ثبت في البخاري أنه بال مرةً قائماً- لعدم التمكن من البول، وقيل: ليبين الجواز. ولا شك أن العلة ما دامت أنها لم تثبت فبقي أنه يريد أن يبين الجواز، أو لم يتمكن من الجلوس في موضع القمامة. الخلاصة: لا بأس عند الحاجة أن يبول الشخص قائماً بشرط: أن يأمن عود رشاش البول عليه، وأن يأمن تلويث ملابسه، فإذا أمن تلويث الملابس والجسم فلا بأس أن يبول قائماً، لكن الأفضل البول قاعداً، لماذا؟ أولاً: لأنه أستر. ثانياً: لأنه آمن من ارتداد رشاش البول عليه وتلويث بدنه وثيابه. فلذلك الأفضل البول قاعداً.
ألا يرفع ثوبه إلا بعد الدنو من الأرض:
خامساً: من آداب إرادة قضاء الحاجة: أن لا يرفع ثوبه إلا بعد أن يدنو من الأرض، وقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض). رواه الترمذي وهو حديث صحيح. وإذا كان في مرحاض ونحوه فلا يرفع ثوبه إلا بعد إغلاق الباب وتواريه عن أعين الناظرين، فما يفعله بعض الكفرة ومن قلدهم من أبناء المسلمين من التبول وقوفاً في بعض المحلات المكشوفة داخل بعض المراحيض العامة مما هو موجود في المطارات وغيرها هو أمر منافٍ للأدب والحشمة والحياء والأخلاق الفاضلة، وتقشعر منه أبدان أصحاب الفطر السليمة، والعقول الصحيحة، وهو أمر منكر شرعاً وحرام، إذ كيف يكشف الشخص عن عورته أمام الناس الغادي منهم والرائح التي جعلها الله بين رجليه ستراً لها، وأمر بتغطيتها، واستقر أمر تغطيتها عند جميع عقلاء البشر؟! ثم إنه من الخطأ أصلاً أن تبنى المرافق بهذا الشكل المشين الذي يرى مستعملوها فيها بعضهم بعضاً وهم يبولون متخلفين في ذلك عن البهائم التي من عادتها الاستتار عند التبول والتغوط.
الاستتار عن أعين الناس:
سادساً: أن يستتر عن أعين الناس عند قضاء الحاجة بالبعد إذا لم يكن ثمة مراحيض تغلق أبوابها. (وقد كان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً أو حائش نخلٍ). والهدف: هو المرتفع من الأرض، وحائش النخل: هو البستان، وإذا كان الإنسان في الفضاء كأن يخرج الإنسان -مثلاً- إلى الساحل أو الشاطئ فيريد أن يقضي حاجته، وليس هناك لا حائش نخل، ولا مرتفع والأرض مستوية، فماذا يفعل؟ إذا كان عنده شيء يتوارى خلفه كسيارة ونحوها فعل ذلك، وإلا فينبغي له أن يبعد عن أعين الناظرين؛ وذلك بأن يمشي إلى مكان بعيد عن الناس، لما روى المغيرة بن شعبة قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم حاجته فأبعد في المذهب). أي: ذهب بعيداً، رواه الترمذي ، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وعن عبد الرحمن بن أبي قرادن قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخلاء، وكان إذا أراد الحاجة أبعد). رواه النسائي وهو حديث صحيح.
الاهتمام بإزالة النجاسة:
سابعاً: من آداب قضاء الحاجة أيضاً: الاعتناء بإزالة النجاسة بعد الفراغ من قضاء الحاجة، لقوله صلى الله عليه وسلم محذراً من التساهل في التطهر من البول: (أكثر عذاب القبر من البول). رواه ابن ماجة ، وهو حديث صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة).
أن يوتر بثلاث مسحات أو أكثر:
ثامناً: من آداب قضاء الحاجة أيضاً: أن يكون مسح النجاسة ثلاثاً فما فوق، وأن يكون وتراً، بحسب ما تدعو إليه حاجة التطهير، فإذا لم تكف ثلاث فخمس مسحات أو سبع أو تسع، لما جاء عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل مقعدته ثلاثاً، قال ابن عمر : فعلناه فوجدناه دواءً وطهوراً). حديث صحيح، رواه ابن ماجة رحمه الله. ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استجمر أحدكم فليستجمر وتراً). رواه الإمام أحمد ، وحسنه الألباني في: صحيح الجامع إذن يقطع على وترٍ.
ألا يستجمر بروث أو عظم:
تاسعاً: من الآداب أيضاً: ألا يستعمل العظم ولا الروث في الاستجمار؛ والاستجمار: هو إزالة النجاسة بالمسح، والاستنجاء: هو إزالة النجاسة بالغسل. ولا يستعمل العظم ولا الروث للاستجمار وإنما يستعمل الحجارة والمناديل ونحو ذلك، لما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: من هذا؟ قال: أنا أبو هريرة ، قال: أبغني أحجاراً أستجمر بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى إذا وضعتها بجنبه ثم انصرفت، حتى إذا فرغ مشيت فقلت: ما بال العظم والروثة؟! قال: هما من طعام الجن). رواه البخاري رحمه الله تعالى.
ألا يتخلى في طريق الناس أو ظلهم:
عاشراً: من آداب قضاء الحاجة كذلك: ألا يبول في طريق الناس، ولا في ظل يستظل به؛ لأن في ذلك إيذاء للمسلمين، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم). رواه أبو داود ، وفي رواية: (اتقوا الملاعن). والملاعن مواضع اللعن، جمع ملعنة، مثل: مقبرة، ومجزرة، موضع القبر وموضع الجزر. وأما اللعانان في رواية مسلم: فهما صاحبا اللعن، أي: الذين يلعنهما الناس كثيراً. وفي رواية أبي داود : ( اللاعنين ). معناه: الأمران الجالبان للعن، لأن من فعلهما لعنه الناس في العادة، فإذا جاء واحد يجلس في الظل فرأى نجاسة فإنه يلعن من فعلها، أو مسافر نزل على الطريق فرأى شجرة مثمرة تحتها نجاسة. إذاً الأماكن التي يستريح فيها الناس لو فعل فيها مثل هذا لعنه الناس، فلما صار سبباً في اللعن أضيف الفعل إليهما. وقد يكون اللاعن بمعنى: الملعون على تقدير: اتقوا الملعون فاعلهما. ما المقصود بموارد الماء؟ أي طرق الماء، واحدها مورد، وأما الظل فهو مستظل الناس الذي يدخلونه مقيلاً وملتقى ويقعدون تحته، وليس كل ظل يمنع قضاء الحاجة تحته، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يستتر بحائط نخل، وللحائط ظل بلا شك، ولكن المقصود: الأماكن التي يجلس فيها الناس في الظل، وهناك ظلال لا يجلسون فيها، فالمقصود: الظلال التي يستظل الناس فيها ويجلسون فيها. وكذلك قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التغوط في قارعة الطريق، فقال: (إياكم والتعريس على قارعة الطريق والصلاة عليها فإنها مأوى الحيات والسباع، وقضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن). إذاً: ليس على الطريق وليس في مكان نزول الناس، ولا على الرصيف، ولا في الظل الذي يوجد فيه الناس، ولا تحت الأشجار المثمرة حيث يقعد الناس، ولا في موارد الماء التي يستقي منها الناس. وما هو العامل المشترك في هذه كلها؟ الجواب: الأماكن التي للناس فيها فائدة.
ألا يسلم على من يقضي حاجته ولا يرد السلام:
حادي عشر: من آداب قضاء الحاجة: ألا يسلم على من يقضي حاجته، ولا يرد السلام وهو في مكان قضاء الحاجة، أما بالنسبة لعدم التسليم فقد جاء عن جابر بن عبد الله أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم عليَّ، فإنك إن فعلت ذلك لم أرد عليك ) رواه ابن ماجة ، وهو حديث صحيح.
ألا يبول في الماء الدائم ولا يتغوط في الماء الجاري:
ثاني عشر: من آداب قضاء الحاجة: أنه لا يجوز البول في الماء الدائم (لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في الماء الراكد). متفق عليه، ولأن الماء إذا كان قليلاً تنجس به، وإن كان الماء كثيراً فربما تغير بتكرار البول فيه هذا، بالنسبة للماء الراكد. وأما الماء الجاري فلا يجوز التغوط فيه؛ لأنه يؤذي من يمر به، فإن قال قائل: فالبول فيه؟ إن بال فيه وهو كثير بحيث لا يؤثر فيه البول فلا بأس؛ لأن تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الراكد بالنهي عن البول فيه دليلٌ على أن الجاري بخلافه، وبناءً على ذلك فلو بال في البحر فلا حرج عليه، فهذا لا ينجسه شيء ولا يؤذي أحداً، لكن لا يتغوط على الساحل، أو في المكان الذي يدخل فيه الناس للبحر يمشون، بل إنه يبعد ويحذر لنفسه ويقضي حاجته. والنهي عن البول في الماء الراكد الأصل فيه أنه للتحريم، وقد ذهب إلى ذلك عدد من أهل العلم وحرموا التغوط في الماء القليل أو الكثير الراكد، أو الجاري؛ لأنه يقذره ويمنع الناس من الانتفاع به؛ وهذا مذهب الحنابلة. وإذا قلنا ذلك: فمن باب أولى أن قضاء الحاجة في المسجد حرام؛ لأنه لا بد من صيانتها وتنزيهها وتكريمها لأنها أماكن للعبادة والدليل حديث الأعرابي المعروف. وقد ذكر ابن الحاج رحمه الله في كتابه: المدخل للبدع ، من بدع الاحتفال بالإسراء والمعراج ونحو ذلك، قال: احتشادهم الساعات الطوال في المساجد مع النساء وربما إذا احتاجوا إلى قضاء الحاجة قضاها بعضهم في المسجد في الخلف. طبعاً: هذا من المنكرات الكبيرة. وقد ذكر بعضهم مسألة قضاء الحاجة بالكنيسة وبيع اليهود، فقالوا: إذا كان هذا يؤدي إلى أن يفعلوه في مساجدنا انتقاماً من مسلم فعله عندهم فلا يفعلوا ذلك، كما أننا نهينا أن نسب آلهة الكفار لئلا يسبوا الله عدواً بغير علم، وأيضاً من جهلهم إذا سببنا آلهتهم يسبون الله عز وجل.
أن يرتاد لبوله موضعاً رخواً:
ثالث عشر: من آداب قضاء الحاجة: أنه يستحب أن يرتاد لبوله موضعاً رخواً لئلا يصيبه رشاش البول، وقد ورد في ذلك حديث رواه الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتبول فأتى دمثاً في أصل حائط فبال، ثم قال: (إذا أراد أحدكم أن يتبول فليرتد لبوله). يتخير مكاناً مناسباً، وهذا إن كان ضعيفاً فإن المعنى صحيح؛ وهو أن الإنسان إذا أراد أن يبول فلا يبل على شيء صلب؛ لئلا يرتد عليه، بل يأتي إلى مكانٍ رخوٍ لئلا يرتد عليه، وبعض الأحيان تجد سطح الأرض خشن صلب لكن إذا ضربته برجلك ظهر التراب الذي تحته فتحول إلى موضع رخوٍ فيمكن أن نعالجه وهكذا.
ألا يبول في مستحمه:
رابع عشر: من آداب قضاء الحاجة: أن على الإنسان ألا يبول في مستحمه، وقد ورد في ذلك حديث عند أبي داود وابن ماجة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبول الرجل في مستحمه). وفي رواية: (لا يبولن أحدكم في مستحمه). وهذا حديث صحيح، فما معنى المستحم؟ وما المقصود بهذا الحديث؟ أما بالنسبة للمستحم، فقد قال الخطابي رحمه الله: المستحم هو المغتسل، وهو مشقق من الحميم وهو الماء الحار الذي يغتسل به. قال النووي رحمه الله: واتفق أصحابنا أن المستحب ألا يستنجي بالماء في موضع قضاء الحاجة لئلا يترشش عليه وهذا في غير الأخلية المعدة، أو المتخذة لذلك؛ أما المتخذ لذلك كالمرحاض فلا بأس فيه؛ لأنه لا يترشش عليه، ولأن في الخروج منه إلى غيره مشقة. وقال بعض العلماء: ألا يستنجي بالماء في موضعه. إذاً: هم قالوا: إذا تبول في مكان، أو تغوط في مكان يزحف قليلاً حتى إذا صب الماء أثناء الاستنجاء لا يصيبه من النجاسة التي صارت في الأرض مثلاً، وإذا أراد أن يغسل عورته، أو يغسل مكان قضاء الحاجة لا تصيب النجاسة المجتمعة في الأرض يده مثلاً، فالمقصود من كل القضية: ألا يرتد عليه شيء من النجاسة، واتقاء الوسواس؛ لأنه قد ورد عند أبي داود : (ولا يبول في مستحمه فإن عامة الوسواس منه). فإذا كان لا يرتد فلا بأس بذلك، وينبغي أن تجعل أماكن قضاء الحاجة في المراحيض بحيث تحقق هذا الغرض؛ وهو عدم ارتداد النجاسة على الذي يقضي الحاجة. وهنا سؤال قد طرحه بعض الإخوان فيما سبق وتوجهنا به إلى الشيخ محمد بن صالح العثيمين ، يقول السؤال: هل التبول في حوض الاستحمام -البانيو- أثناء الاستحمام يدخل في حديث النهي عن البول في المستحم؟ أم لأن مجرى الماء مفتوح فلا يدخل؟ الجواب: لا. لا يدخل لأنه إذا بال فسوف يصب عليه الماء ثم يزول البول، لكن لا يستحم حتى يزيل البول بإراقة الماء عليه، ولو قدر أن الإنسان حضره التبول أثناء الاستحمام يتوقف عن الاستحمام حتى يبول ويريق عليه الماء، فإذا كان يوجد أي وسيلة للوسوسة فيجتنب الإنسان ما يؤدي إلى الوسوسة. وقد ذكر بعض الفقهاء الاعتماد في التبول على الرجل اليسرى، وقالوا: ويعتمد في حال جلوسه على الرجل اليسرى كما قال ابن قدامة في المغني لما روى سراقة بن مالك قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتوكأ على اليسرى وأن ننصب اليمنى). رواه الطبراني في المعجم ، يقول ابن قدامة معللاً: ولأنه أسهل لخروج الخارج. لكن هذا الحديث إذا كان ضعيفاً ماذا نفعل؟ ننظر في المعنى، وقد قال النووي رحمه الله في المجموع : هذا الحديث ضعيف رواه البيهقي عن رجل عن أبيه عن سراقة قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدنا الخلاء أن يعتمد اليسرى وينصب اليمنى). قال: وهذا الأدب مستحب عند أصحابنا، واحتجوا فيه بما ذكره المصنف، وقد بينا أن الحديث لا يحتج به فيبقى المعنى ويستأنس بالحديث, والله أعلم. المعنى الذي ذكروه قد يكون نتيجة تجربة، والحديث الآن ضعيف قالوا: إنه إذا استند على الرجل اليسرى ومال على الجانب الأيسر صار أسهل لخروج النجاسة، وقد ذكر ابن قدامة -هذا الكلام كما قلنا- أنه أسهل، وكذلك ذكر بعضهم هذه القضية، وعلل ذلك بأن المعدة في الجانب الأيسر فيكون الاتكاء على اليسار أسهل في الخروج وخصوصاً الغائط، لكن على أية حال المسألة كما رأينا ما دام حديثها ضعيفاً فهي على راحة الإنسان، إذا وجد أنه في قضاء الحاجة أكثر راحة له فالحمد لله يفعل ذلك، والمقصود: اتباع ما يسهل عند قضاء الحاجة، أن يكون الخروج سهلاً؛ لأنه أحياناً إذا خرج بتعسف آذى الشخص، وهناك أناس يصابون بآفات عظيمة جراء قضية التعسف عند قضاء الحاجة، وعدم اتباع الوسيلة الميسرة في ذلك، أو الوضع الميسر في ذلك.
أن يذكر الله قبل أن يدخل الخلاء:
خامس عشر: من آداب قضاء الحاجة: ذكر الله عز وجل قبل أن يدخل الخلاء، فماذا يقول قبل أن يدخل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن يقول: باسم الله).. (وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الكنيف قال: باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، وكان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك). فأما بالنسبة للبسملة فقد عرفنا فائدتها، فيأتي بها الإنسان في أي موضع، أو في أي عمل، والسنة أن يأتي بها قبل الشروع في أي عمل، وهنا فائدتها أنها تمنع الجن من النظر إلى عورات الآدميين؛ لأنه لا بد أن يكشف العورة عند قضاء الحاجة. والمراحيض ومواضع النجاسات من الأماكن التي يغشاها الجن، فإذا كانوا يغشون هذه الأماكن والإنسان سوف يدخلها فإنه يحتاج إلى التسمية لكي يستتر منهم: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] وقوله: (أعوذ بك من الخبث والخبائث) لو قلت: الخبْث فإنه مصدر معروف، أما الخُبُث والخبائث فالمقصود: ذكران الشياطين وإناثهم، جمع خبيث وخبيثة: خُبُث وخبائث. فإذاً: الشياطين لهم ذكور وإناث، وقد يكون في هذا المكان من هذا الجنس أو من هذا الجنس، إذن يستعيذوا من شرهم أيضاً؛ لأنهم قد يكون لهم شر بحيث أنهم يغشون هذه الأماكن يخيفون، أو يصرعون، أو يدخلون ونحو ذلك، فقول هذا الدعاء يفيد في معالجتهم أو كف شرهم وأذاهم. وعند الخروج يقول: (غفرانك) ما علاقة (غفرانك) بالخروج؟ قال بعض العلماء: الوجه في سؤال المغفرة أنه جرى منه عليه الصلاة والسلام على عادته إذ كان من دأبه الاستغفار في حركاته وسكناته وتقلباته حتى إنه ليعد له في المجلس الواحد مائة مرة، وإنه لما كان خروج الأخبثين -هذه ملاحظة ذكرها بعضهم- بسبب خطيئة آدم، يعني: عندما كان آدم عليه السلام في الجنة لم تكن هناك نجاسة تخرج فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا [الأعراف:22] وصارت هذه المعصية سبب الهبوط إلى الأرض وصار غائط وبول. فيذكر العبد نفسه بهذا الاستغفار ما حدث بسبب الخطيئة، وأن العبد لا يخلو من الخطيئة حينئذٍ، وأن هناك ارتباطاً بين الخطيئة التي حدثت وبين خروج النجاسة من الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحمد لله الذي أذهب عني أذاه وأذاقني لذته) وفي رواية: (وأذهب عني مشقته). ما هو الأذى؟ هذا الذي يخرج من الإنسان، والمشقة الحاصلة بسبب مكثك، فخروج الغائط نعمة تستوجب الشكر، والإنسان يهمل ويقصر فيذكر نفسه بالدعاء والمغفرة: (غفرانك) غفرانك على التقصير، غفرانك من كل شيء، فهو يسأل الله سبحانه وتعالى المغفرة أو يطلب منه المغفرة، وقد تكون هذه الأماكن مدعاة أيضاً للوقوع فيما يحرم من التذكير بأمور السوء ونحو ذلك.