يقول الله تعالى :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) " سورة الصف 2,3
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله :
"الرسلات الكبري تحتاج في نصرتها وحمايتها إلى الجدّ , والصدق ولا يصلح في مسانتدها أهل الكلام والدعوى, ولا الجبناء الذي إذا كلفوا بالجهاد تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت !
إن المبطلين وأصحاب الدعوات لديهم جرأءة في خدمة ما يعتنقون , ولن يستطيع قهرهم إلا مؤمنون شداد يستميتون في دعم الحق , ويرخصون في سبيله النفس والمال , ويتراصُّون في مواجهة العدو كلما استشهد بطل حل مكانه آخر " ذالك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض"سورة محمد 4
أما الكلام المرسل والصياح العالي فلا يجديان في بلوغ غاية ولذالك عوتب المؤمنون الذين لا يرتفعون إلى هذا المستوى :" يا أيها الذين ءامنوا لما تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولا ما لا تفعلون " سورة الصف 2.3 "
من كتاب نحو تفسير موضوعي للقرآن الكريم ص 455
ولننظر إلى أقوال المفسيرين في هذه الآية الكريمة
ويقول الشيخ السعدي
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } أي: لم تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون به ومتصفون به.
فهل تليق بالمؤمنين هذه الحالة الذميمة؟ أم من أكبر المقت عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل؟ ولهذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه، قال تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } وقال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه: { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } .
وقد افاض بن كثير رحمه الله فقال
: { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } إنكار على من يعد وعدا أو يقول قولا لا يفي به ولهذا استدل بهذه الاية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا سواء ترتب عليه عزم الموعود أم لا واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان ] وفي الحديث الاخر في الصحيح [ أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها ] فذكر منهن إخلاف الوعد وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى : { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا صبي فذهبت لأخرج لألعب فقالت أمي : يا عبد الله تعال أعطك فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وما أردت أن تعطيه ؟ ] قالت : تمرا فقال : [ أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة ] وذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى إلى أنه إذا تعلق بالوعد غرم على الموعود وجب الوفاء به كما لو قال لغيره تزوج ولك علي كل يوم كذا فتزوج وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك لأنه تعلق به حق آدمي وهو مبني على المضايقة وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا وحملوا الاية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم كقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }
وقال تعالى : { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة ؟ فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } الاية وهكذا هذه الاية معناها كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون لوددنا أن الله عز و جل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فقال الله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } وهذا اختيار ابن جرير : وقال مقاتل بن حيان : قال المؤمنون لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به فدلهم الله على أحب الأعمال إليه فقال : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } فبين لهم فابتلوا يوم أحد بذلك فولوا عن النبي صلى الله عليه و سلم مدبرين فأنزل الله في ذلك { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } وقال : أحبكم إلي من قاتل في سبيلي
ومنهم من يقول : أنزلت في شأن القتال يقول الرجل قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن وضربت ولم يضرب وصبرت ولم يصبر وقال قتادة والضحاك : نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون قتلنا وضربنا وطعنا وفعلنا ولم يكونوا فعلوا ذلك وقال ابن زيد : نزلت في قوم من المنافقين كانوا يعدون المسلمين النصر ولا يفون لهم بذلك وقال مالك عن زيد بن أسلم { لم تقولون ما لا تفعلون } قال : في الجهاد وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد { لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون * إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } فما بين ذلك في نفر من الأنصار فيهم عبد الله بن رواحة قالوا في مجلس لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا بها حتى نموت فأنزل الله تعالى هذا فيهم فقال عبد الله بن رواحة لا أبرح حبيسا في سبيل الله حتى أموت فقتل شهيدا
ومما سبق نتعلم من هدي هذه الآية الكريمة ان نتذكر ماقاله صاحب الشيخ ناصرالعمر عند كلامه عن لحوم العلماء وأنها مسمومة قال الشيخ :
إن على العلماء أن يحُموا أنفسهم ، ويسدوا الذرائع المفضية إلى أكل لحومهم . وقدوتهم في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال :(( على رسلكما . إنها صفية ))هكذا دافع المصطفى عليه الصلاة والسلام عن نفسه وحمى عرضه ، مع أن الموقف مع صحابته الأطهار الأخيار، حتى لقد استغربوا من قوله، فبين لهم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
ويمكن بيان كيفية حماية العلماء لأنفسهم في الأمور التالية :
1- أن يكون العالم قدوة في علمه وعمله: ومن هنا جاء في القرآن التحذير من تخالف العلم والعمل، قال تعالى: { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}[سورة البقرة ، الآية : 44 ]
وقال - جل شأنه - : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون . كبُر مقتاً عند الله أن تقولون مالا تفعلون } ،[سورة الصف ، الآية :2 ]
وحديث الذي يدور في النار كالحمار ، مشهور معروف وصدق الشاعر حيث يقول :
يا أيها الرجل المعلم غيره ****** هلا لنفسك كان ذا التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي غيره ****** عار عليك إذا فعلت عظيم